فصل: تفسير الآية رقم (57):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} بسبب الصاعقة، وكان ذلك بدعاء موسى عليه السلام ومناشدته ربه بعد أن أفاق، ففي بعض الآثار أنهم لما ماتوا لم يزل موسى يناشد ربه في إحيائهم ويقول: يا رب إن بني إسرائيل يقولون قتلت خيارنا حتى أحياهم الله تعالى جميعًا رجلًا بعد رجل ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحييون، والموت هنا ظاهر في مفارقة الروح الجسد، وقيد البعث به لأنه قد يكون عن نوم كما هو في شأن أصحاب الكهف، وقد يكون بمعنى إرسال الشخص وهو في القرآن كثير ومن الناس من قال: كان هذا الموت غشيانًا وهمودًا لا موتًا حقيقة كما في قوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} [إبراهيم: 7 1] ومنهم من حمل الموت على الجهل مجازًا كما في قوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] وقد شاع ذلك نثرًا ونظمًا، ومنه قوله:
أخو العلم حي خالد بعد موته ** وأوصاله تحت التراب رميم

وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ** يظن من الأحياء وهو عديم

ومعنى البعث على هذا التعليم أي ثم علمناكم بعد جهلكم.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي نعمة الله تعالى عليكم بالإحياء بعد الموت أو نعمته سبحانه بعدما كفرتموها إذ رأيتم بأس الله تعالى في رميكم بالصاعقة وإذاقتكم الموت وتكليف من أعيد بعد الموت مما ذهب إليه جماعة لئلا يخلو بالغ عاقل من تعبد في هذه الدار بعد بعثة المرسلين، ومن جعل البعث بعد الموت مجازًا عن التعليم بعد الجهل جعل متعلق الشكر ذلك، وفي بعض الآثار أنه لما أحياهم الله تعالى سألوا أن يبعثهم أنبياء ففعل، فمتعلق الشكر حينئذ على ما قيل: هذا البعث وهو بعيد، وأبعد منه جعل متعلقه إنزال التوراة التي فيها ذكر توبته عليهم وتفصيل شرائعهم بعد أن لم يكن لهم شرائع.
وقد استدل المعتزلة وطوائف من المبتدعة بهذه الآية على استحالة رؤية الباري سبحانه وتعالى لأنها لو كانت ممكنة لما أخذتهم الصاعقة بطلبها، والجواب أن أخذ الصاعقة لهم ليس لمجرد الطلب ولكن لما انضم إليه من التعنت وفرط العناد كما يدل عليه مساق الكلام حيث علقوا الإيمان بها، ويجوز أيضًا أن يكون ذلك الأخذ لكفرهم بإعطاء الله تعالى التوراة لموسى عليه السلام وكلامه إياه أو نبوته لا لطلبهم، وقد يقال: إنهم لما لم يكونوا متأهلين لرؤية الحق في هذه النشأة كان طلبهم لها ظلمًا فعوقبوا بما عوقبوا، وليس في ذلك دليل على امتناعها مطلقًا في الدنيا والآخرة، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيق هذه المسألة بوجه لا غبار عليه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ثم بعثناكم من بعد موتكم} إيجاز بديع، أي فمتم من الصاعقة ثم بعثناكم من بعد موتكم، وهذا خارق عهادة جعل الله معجزة لموسى استجابة لدعائه وشفاعته أو كرامة لهم من بعد تأديبهم إن كان السائلون هم السبعين فإنهم من صالحي بني إسرائيل.
فإن قلت إذا كان السائلون هم الصالحين فكيف عوقبوا؟
قلت قد علمت أن هذا عقاب دنيوي وهو ينال الصالحين ويسمى عند الصوفية بالعتاب وهو لا ينافي الكرامة، ونظيره أن موسى سأل رؤية ربه فتجلى الله للجبل فجعله دكًا وخر موسى صعقًا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك.
فإن قلت إن الموت يقتضي انحلال التركيب المزاجي فكيف يكون البعث بعده في غير يوم إعادة الخلق؟
قلت: الموت هو وقوف حركة القلب وتعطيل وظائف الدورة الدموية فإذا حصل عن فساد فيها لم تعقبه حياة إلا في يوم إعادة الخلق وهو المعنى بقوله تعالى: {لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى} [الدخان: 56] وإذا حصل عن حادث قاهر مانع وظائف القلب من عملها كان للجسد حكم الموت في تلك الحالة لكنه يقبل الرجوع إن عادت إليه أسباب الحياة بزوال الموانع العارضة، وقد صار الأطباء اليوم يعتبرون بعض الأحوال التي تعطل عمل القلب اعتبار الموت ويعالجون القلب بأعمال جراحية تعيد إليه حركته.
والموت بالصاعقة إذا كان عن اختناق أو قوة ضغط الصوت على القلب قد تعقبه الحياة بوصول هواء صاف جديد وقد يطول زمن هذا الموت في العادة ساعات قليلة ولكن هذا الحادث كان خارق عادة فيمكن أن يكون موتهم قد طال يومًا وليلة كما روي في بعض الأخبار ويمكن دون ذلك. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}.
أعادهم إلى حال الإحساس بعد ما استوفتهم سطوات العذاب إملاء لهم بمقتضى الحكم، وإجراء للسنَّةِ في الصفح عن الجُرْم، ومن قضايا الكرم إسبال الستر على هناتِ الخَدَم. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)}.
فالحق سبحانه وتعالى يكمل لنا قصة الذين قالوا {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ}. موسى عليه السلام أصيب بالصاعقة أيضا.. عندما طلب أن ينظر إلى الله. ولكن هناك فرق بين الحالتين.. الله تبارك وتعالى يقول: {وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143].
ولكن الأمر لم يكن كذلك مع قوم موسى. فمع موسى قال الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ} أي أن الصاعقة أصابته بنوع من الإغماء.. ولكن مع قوم موسى. قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ}. فكأن قوم موسى ماتوا فعلا من الصاعقة.. فموسى أفاق من تلقاء نفسه.. أما أولئك الذين أصابتهم الصاعقة من قومه.. فقد ماتوا ثم بعثوا لعلهم يشكرون. اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)}.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

قال الحرالي: وعطف تعالى على ذكر البعث ذكر حال من مثل أحوال أهل الجنة الذي ينالونه بعد البعث، فكأن عامتهم الذين لم يموتوا إنما شركوا هؤلاء المبعوثين لكونهم كأنهم ماتوا بموتهم وبعثوا ببعثهم، فذكر ظل الغمام وهو من أمر ما بعد البعث والأرزاق بغير كلفة وهو من حال ما بعد البعث وأفهم ذلك أمورًا أخر في أحوالهم كما يقال إن ملابسهم كانت تطول معهم كلما طالوا فكأنهم أخرجوا من أحوال أهل الدنيا بالجملة إلى شبه أحوال أهل الجنة في محل تيههم ومستحق منال العقوبة لهم كل ذلك إنعامًا عليهم، ثم لم يزيدوا مع ذلك إلا بعدًا عن التبصرة في كل ما أبدي لهم من العجائب- حدث عن بني إسرائيل ولا حرج فقال: {وظللنا} من الظلة وهو وقاية مما ينزل من سماء الموقي و{عليكم الغمام} من الغم وهو ما يغم النور أي يغطيه- انتهى.
أي فعلنا ذلك لترفيه أجسامكم وترويح أرواحكم، وعن مجاهد أن الغمام أبرد من السحاب وأرق وأصفى {وأنزلنا عليكم المن} قال الحرالي: هو ما جاء بغير كلفة، الكمأة من المن- انتهى.
{والسلوى} أي لطعامكم على أن المن من الغمام، وحشر السلوى إليهم بالريح المثيرة له فنظمها به على غاية التناسب.
قال الحرالي: والسلوى اسم صنف من الطير يقال هو السماني أو غيره- انتهى.
وسيأتي إن شاء الله تعالى في الأعراف أنه غير السماني وأنهم خصوا به إيذانًا بقساوة قلوبهم.
وهذه الخارقة قد كان صحابة نبينا صلى الله عليه وسلم غنيين عنها بما كان النبي صلى الله عليه وسلم كلما احتاجوا دعا بما عندهم من فضلات الزاد فيدعو، فيكثره الله حتى يكتفوا من عند آخرهم، وأعطى أبا هريرة رضي الله عنه تمرات وأمره أن يجعلها في مزود وقال له: أنفق ولا تنثرها، فأكل منه سنين وأنفق منه أكثر من خمسين وسقًا.
وبارك لآخر في قليل شعير وأمره أن لا يكيله، فلم يزل ينفق منه على نفسه وامرأته وضيفه حتى كاله فنفي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو لم تكله لأكلتم منه ولقام لكم» وكان نحو ذلك لعائشة رضي الله عنها بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا لأم مالك رضي الله عنها في عكة سمن لم تزل تقيم لها أدمها حتى عصرتها.
ومثل ذلك كثير في دلائل النبوة للبيهقي وغيره.
وقيل لكم {وكلوا} ودل على أنه أكثر من كفايتهم بقوله: {من طيبات} جمع طيبة.
قال الحرالي: والطيب ما خلص من منازع يشارك فيه وطيّبه من سوى الأكل له أي لم ينازعه وليس فيه حق لغيره، ومنه الطيب في المذاق وهو الذي لا ينازعه تكره في طعمه، وهذا زاد على ذلك بكونه لم يكن عن عمل حرث ولا معاملة مع خلق- انتهى.
{ما رزقناكم} أي على عظمتنا التي لا تضاهى.
ولما لم يرعوا هذه النعم أعرض عنهم للإيذان باستحقاق الغضب.
وقال الحرالي: ثم أعرض بالخطاب عنهم وأقبل به على محمد صلى الله عليه وسلم ومن معه- انتهى.
فقال: {وما} أي فظلموا بأن كفروا هذه النعم كلها وما {ظلمونا} بشيء من ذلك {ولكن كانوا} أي جبلة وطبعًا {أنفسهم} أي خاصة {يظلمون} لأن ضرر ذلك مقصور عليهم.
قال الحرالي: وفيه إشعار بتحذير هؤلاء أن يروا نحوًا مما رأوا فينالهم نحو مما نالوه، لأن قصص القرآن ليس مقصوده مقصورًا على ذكر الأولين فقط بل كل قصة منه إنما ذكرت لما يلحق هذه الأمة في أمد يومها من شبه أحوال من قص عليهم قصصه- انتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن هذا هو الإنعام السابع الذي ذكره الله تعالى وقد ذكر الله تعالى هذه الآية بهذه الألفاظ في سورة الأعراف، وظاهر هذه الآية يدل على أن هذا الإظلال كان بعد أن بعثهم لأنه تعالى قال: {ثُمَّ بعثناكم مّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} بعضه معطوف على بعض وإن كان لا يمتنع خلاف ذلك، لأن الغرض تعريف النعم التي خصهم الله تعالى بها. اهـ.
قال الفخر:
قال المفسرون: {وَظَلَّلْنَا} وجعلنا الغمام تظلكم، وذلك في التيه سخر الله لهم السحاب يسير بسيرهم يظلهم من الشمس وينزل عليهم المن وهو الترنجبين مثل الثلج من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع ويبعث الله إليهم السلوى وهي السماني فيذبح الرجل منها ما يكفيه {كُلُواْ} على إرادة القول: {وَمَا ظَلَمُونَا} يعني فظلموا بأن كفروا هذه النعم أو بأن أخذوا أزيد مما أطلق لهم في أخذه أو بأن سألوا غير ذلك الجنس وما ظلمونا فاختصر الكلام بحذفه لدلالة {وَمَا ظَلَمُونَا} عليه. اهـ.

.قال السمرقندي:

{وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام}، إنما خاطبهم وأراد به آباءهم وهم قوم موسى عليه السلام حيث أمروا بأن يدخلوا مدينة الجبارين، فأبوا ذلك وقالوا لموسى: {قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هاهنا قاعدون} [المائدة: 24]، فعاقبهم الله عز وجل فبقوا في التيه أربعين سنة، وكانت المفازة اثني عشر فرسخًا، وكان يؤذيهم حر الشمس فظلل عليهم الغمام، فذلك قوله تعالى: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} وهو السحاب الأبيض، يقيكم حر الشمس في التيه، وكان لهم في التيه عمود من نور مد لهم من السماء فيسير معهم من الليل مكان القمر.
فأصابهم الجوع فسألوا موسى فدعا الله فأنزل عليهم المن وهو الترنجيين كان يتساقط عليهم كل غداة، فيأخذ كل إنسان منهم ما يكفيه يومه وليلته، فإن أخذ أكثر من ذلك دود ذلك الزائد وفسد؛ وإذا كان يوم الجمعة أخذ كل إنسان منهم مقدار ما يكفيه يومين، لأنه لا يأتيهم يوم السبت، وكان ذلك مثل الشهد المعجون بالسمن فأجموا من المن، أي ملوا من أكله.
فقالوا لموسى عليه السلام: قتلنا هذا المن بحلاوته وأحرق بطوننا، فادع لنا ربك أن يطعمنا لحمًا.
فدعا لهم موسى عليه السلام فبعث الله لهم طيرًا كثيرًا فذلك قوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى}، وهو السماني وهو طير يضرب إلى الحمرة.
وقال بعضهم: كان طيرًا يأتيهم مشويًا.
قال عامة المفسرين إنهم كانوا يأخذونها ويذبحونها. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {وظلَّلنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المنَّ والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
{الغمام} السحاب، سمي غمامًا، لأنه يغم السماء، أي: يسترها، وكل شيء غطيته فقد غممته، وهذا كان في التيه.
وفي المن ثمانية أقوال:
أحدها: أنه الذي يقع على الشجر فيأكله الناس، قاله ابن عباس والشعبي والضحاك.
والثاني: أنه الترنجبين، روي عن ابن عباس أيضًا، وهو قول مقاتل.
والثالث: أنه صمغه، قاله مجاهد.
والرابع: أنه يشبه الرب الغليظ، قاله عكرمة.
والخامس: أنه شراب، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس.
والسادس: أنه خبز الرقاق مثل الذرة، أو مثل النَّقي، قاله وهب.
والسابع: أنه عسل، قاله ابن زيد.
والثامن: أنه الزنجبيل، قاله السدي.
وفي السلوى قولان:
أحدهما: أنه طائر، قال بعضهم: يشبه السماني، وقال بعضهم: هو السماني.
والثاني: أنه العسل ذكره ابن الانباري، وأنشد:
وقاسمها بالله جهدًا لأنتم ** ألذ من السلوى إِذا ما نشورها